معاقل العلم والعلماء: «بُـسْـت» مدينة العظماء
د. محمد محمدي النورستاني



سبق
أن تحدَّثت عن إقليم «سجستان»، موطن الإمام أبي داود السجستاني، وغيره من
الأئمة السجستانيين والسجزيِّين (1)، وقد ذكرت هناك أنّ مركزَ إقليم
سجستان هو مدينة «زَرَنْج»، وكانت تُسَمَّى أيضًا بـ«مدينة سجستان»، وفي
هذا العدد أتحدَّث عن مدينةٍ من أشهر مدُن سجستان، وهي مدينةُ «بست».

هي مدينةٌ قديمةٌ عدَّها القُدامى من أعمال (توابع) سجستان (2)، وكانت
ثانية المدن الجليلة في سجستان بعد مدينة «زَرَنْج» مركزِ سجستان، قال
ابنُ حوقل النصيبي (ت بعد 580هـ): «وبُسْت مدينةٌ ليس في أعمال سجستان بعد
زَرَنْج أكبر منها، وهي وبئةٌ في نفسِها، وزيُّ أهلِها زيُّ أهل العراق،
ويرجعون إلى مروءةٍ ويَسارٍ، وبها متاجرُ إلى بلد الهند، وبها نخيلٌ
وأعنابٌ، وهي خصبةٌ جدًّا» (3). معاقل العلم والعلماء: «بُـسْـت» مدينة العظماء Hospital_opt
وقال المقدسي البشَّاري (ت نحو 380هـ) في وصف هذه المدينة، وفي وصف
أهلِها: «بُست قصبةٌ جليلةٌ، أهل دين (4) ومروءة ويسار ونعمة، طيبةٌ خصبة،
ولهم لباقةٌ وإسنادٌ ودرايةٌ، موضوعةٌ بين نهرين، وجامعةٌ للفاكهتَين،
ليِّنةُ الهوائين، نفيسة المدن، كثيرةُ القرى... وسمعتُ أبا منصور فقيهَ
سجستان يقول: ما رأيتُ بلدًا على صغرِه أخصب ولا أكثر فواكِهَ ونِعَمًا من
بُست، إلا أنها وبيئة متطرفة، صغيرة الرقعة، لها مدينةٌ عامرة، والجامعُ
فيها، وربضُ الأسواقِ فيه، شربُهم من هيرمند (5)، والنهرُ الآخرُ اسمُه
«خُرْد روي» (6)، يجتمعان على فرسخٍ، وعلى هيرمند جسرٌ من سفنٍ بقربِ
موضعِ مجمع النهرين، وعلى نصف فرسخٍ من نحو غزنين (7) شبهُ مدينةٍ تُسمَّى
«العسكر»، ينزلُها السلطان...» (8).
وتقعُ مدينةُ «بُست» على نهرِ «هِلْمَنْد»، عند ملتقى النَّهر الآتي من ناحية مدينة «قندهار» معه، إلى الجنوبِ من ملتَقى النهرَين.
وكانت دائمًا موضعًا جليلًا بسبب موقعِها المهم، قال الاصطخري: «على باب بُست جسرٌ من السفُن، كما يكون على أنهار العراق» (9).
فهي ذاتُ موقعٍ حسنٍ جدَّا لكونها في الزاويةِ التي بين هذين النَّهرين،
في البقعة التي يُصبِحُ فيها النهرُ صالحًا للملاحة، وحيث تَلتقي الطرقُ
الآتيةُ من زَرَنْج وهِراة، لتعبُرَ نهرَ هيلمند على جسرٍ من السُّفن، ثم
تتابِع سَيْرَها إلى ما باتَ يُعرَفُ الآن بـ»باكستان»، ومن ورائها الهند،
ممَّا جعلَها مركزًا تجاريًّا إلى بلادِ الهند (10).
وكانت تمتازُ بكثرة الزروع والنَّخيل والأعنابِ والفواكه، نظرًا
لِوَفْرَةِ مِيَاهِهَا، وخِصْبِ أرضِها، وقد نعمت هذه المدينة قرابةَ قرنٍ
من الزمان بأوج ازدهارِها في عهد الغزنويين، إذ استولى عليها سبكتكين سنة
(366هـ)، ففصلَها عن ولاية «زَرَنْجْ»، وأصبحَت «بُست» المقرَّ الثاني
لحكَّام غزنة، الذين أقاموا فيها معسكرَهم الدائم «العسكر»، ومازالت آثارُ
هذه القلعة موجودة إلى الآن.
ذكرُ ما حلَّ بمدينة بُست من الخراب والدمار
بعد مدةٍ من استقرار المدينة وازدِهارِها في عهد الغزنَويِّين امتدَّت
إليها حوادثُ الزَّمانِ لتغتالَ بهاءَها، فأجالَتْ فيها يدَ الخراب،
وأحالَتْ بساتِيْنَها الغنَّاء إلى صَحْراء مُجْدِبَة، وكان بدءُ ذلك حين
اكتَسحَ علاءُ الدين حسن جَهانْ سُوْز (أي محرق العالم) الغُوري مملكةَ
الغَزْنَويين، وكانت إحدى مُدُنِها، فلحقَها ما لحقَ بمُدُنِ
الغَزْنَوِيِّيْن من الخراب، وذلك حوالي سنة (545هـ) (11)، وقد نَهَبَها
علاءُ الدين، وأحرقَ القِلاعَ السلطانيةَ فيها.
إلا أنَّ ولاةَ الغوريين من سكَّان هذا الإقليم ما لبثوا أن أصلحوا قصورَ
الغزنويين في بُست، ورمَّموا ما تهدَّمَ من قلاعِها، كما سكَنَها من
بعدهم الخوارْزِمْشاه.
أمّا التخريبُ الكبير فهو الذي أصابَ المدينةَ من قِبل المغول (ت 618هـ)،
ويصِفُها ياقوت في أوائل القرن السَّابع الهجريِّ فيقول: «والخرابُ فيها
ظاهر» (12).
وكان من الممكنِ لهذه المدينة أن تَلْتَقِطَ أنفاسَها، فتُرَمِّمَ ما
تهدَّمَ منها، لولا أنَّ تيمور أجهزَ عليها في أواخرِ القرنِ الثامن،
فأوقعَ بها وبما جاورَهَا الدَّمَار، حين زحفَ إليها مِن زَرَنْج (13)،
ولم يَبْقَ من بُسْت إلا حِصْنُها الذي ظَلَّ يُقَاوِمُ الأحداثَ بفضلِ
موقعِه الحَرْبيِّ، إلى أن خرَّبَه نادِرْشَاه في القرنِ الثاني عشر
الهجري، عام 1117هـ/ 1738م، ولا تزالُ أسوارُه قائمةً على شاطئ
«الهيلمند»، كما أنَّ الأطلالَ التي تَشغَلُ مساحةً كبيرةً من الأرض
تَشهدُ على ما كان لعاصمة الغَزْنَويين من عظمةٍ وبَهاء (14).
وحصنُ بُست مازال يُعرف بـ»قلعةِ بُست»، ومازالت أسوارُه قائمةً إلى الآن، كما أسلفت.
وبالقربِ من مدينة «بُست» المندَثِرَة، مدينةٌ أخرى الآن، تُسَمَّى
«لَشْكَرْگـَاهْ»، وهي مركزُ محافظةِ «هِيلْمَنْد»، الواقعة إلى الجنوبِ
الغربيِّ من العاصمة «كابول» في أفغانستان، بين مدينتَي قندهار وزَرَنْج،
وهذه المدينة (لَشْكَرْگـَاهْ) تُعتَبَرُ هي مدينة بُسْت؛ لأنها أعيدَ
بناؤها في الموقع الجديد، وسُمِّي باسم حِصْن بُست، ومعنى
«لَشْكَرْگـَاهْ»: موقع العسكَرْ، وباسم بُست سُمِّي مطار مدينة
«لَشْكَرْگـَاهْ» الآن.
دخول الإسلام إلى بست
وقد اختلفَ المؤرِّخون المسلمون في زمن دخول بست في حوزة المسلمين،
ويُستَخلَصُ من كلامهم أنّ سجستان وكابل قد فُتِحتا أيام الخليفة عمر بن
الخطاب سنة (23) بقيادة عاصم بن عمرو التميمي وعبدِالله بن عمير، إلا أنّ
أهلَها نقضوا بعده، فأعيدَ فتحُهما زمنَ الخليفةِ عثمان "رضي الله عنه"
بقيادة عبدالله بن عامر بن كريز سنة (30هـ)، وقد ذكرَ الإمامُ ابنُ حبان
هذا في ترجمة الربيع بن زياد، حيث قال: «إنَّ عثمانَ بنَ عفان "رضي الله
عنه" في السَّنةِ التاسعةِ والعشرين عزلَ أبا موسى الأشعريَّ عن البصرة،
وعثمانَ بنَ العاص عن فارس، وولَّى البصرةَ وفارس كلَّها عبدَالله بنَ
عامر بن كُرَيز، فأنفذَ عبدُالله بن عامر في أول سنةِ ثلاثين الربيعَ بنَ
زياد إلى سجستان، وولَّاه عليها، ففتح سجستان على يديه، وقد ذكرنا تلك
القصةَ بتمامها في فضائل سجستان» (15).
والخلاصة أنّ مدينة بُست تقع الآن في محافظةِ هِيلْمَنْد، الواقعة إلى
الجنوبِ الغربيِّ من العاصمة «كابول» في أفغانستان، بين مدينتَي قندهار
وزَرَنْج، وقد اندثرت هذه المدينة، ولم يبقَ منها سوى أطلالها الممتدَّة
على مساحةٍ شاسعة، وسوى بقايا من أسوار حصنها الكبير، الذي يُعرف الآن
بـ«قلعة بُست»، وقد نشأت مدينةٌ أخرى في القرب من الموقع القديم، وهي
مدينة «لَشْكَرْگـَاهْ»، ومطارُها سُمِّي باسم «مطار بُست».
والجدير بالذكر أنّ كثيرًا ممن ألَّفوا في البلدان أفاضوا في وصف بست، بل
لا يكادُ مؤلَّف في الموضوع يخلو من وصف هذه المدينة، إلا أنّ الكتاب
الذي أشارَ إليه الإمامُ ابنُ حبان في كلامه السابق «فضائل سجستان» من
المصادر التي يُتَوَقَّعُ أن تكون أكثر تفصيلًا في وصف المدينةِ وأهلِها؛
لأنه لأحد أئمتِها البارزين.
مدينةُ «بُست» من معاقل العلماء
قد خرجَ من هذه المدينة أعلامٌ وعلماءُ كثيرون، منهم: الإمامُ حمد بن
محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطَّابي البُستي (ت388هـ)، وهو من نسل زيد بن
الخطاب، أخي عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" ، صاحب المؤلَّفات الكثيرة،
منها: «أعلام الحديث»، وهو شرح صحيح البخاري، و«معالم السنن» في شرح سنن
أبي داود، و«غريب الحديث»، وكتب أخرى كثيرة.
ومنهم: شيخُ الخطابي الإمام ابنُ حبان البُستي، وهو الإمامُ أبوحاتِم
محمدُ بنُ حِبَّان بن أحمد بن حِبَّان بن معاذ بن معبد بن سَهيد التميمي
البُستي (16). و«حِبَّان» بالموحَّدةِ المشدَّدة، مع كسرِ أوَّلِه.
و«التَّميميُّ» نسبة إلى تميم جدِّ القبيلة العربية المشهورة، وهو تميم
بن مُرّ، الذي يصلُ نسبُه إلى عدنان، فهو عربيُّ الأصل، أفغانيُّ المولد
والبلد.
وقد أجمعت المصادر على أنّ الإمامَ ابنَ حبان وُلد في مدينة «بُست»، ولكن
لم يُحدِّدوا سنةَ ولادتِه، ويؤخذ من أقوال العلماء أنه وُلِدَ بين سنة
(275- 279هـ)، وقد قاربَ الثمانين من عمره.
نشأ الإمامُ ابنُ حبان في مدينة بُست، وأمضى فيه طفولتَه وأوائلَ شبابه، ثم غادرَها إلا أنه عادَ إليها في آخر عمره، وتوفي فيها.
وكان الإمامُ ابنُ حبان من الأئمة الذين جمعوا بين الحديث والفقه، وهو
على طريقةِ شيخِه الإمام ابنِ خزيمة في الفقه، والذي لازمَه في الحضرِ
والسفر، وحذا حذوَه في الصحيح، وفي منهجه وطريقتِه في الفقه. وقد ذكرَ
العلماءُ أنَّ الإمامَ ابنَ حبان من المجتَهِدين، قال الإمام ابنُ كثير
(ت774هـ): «أحدُ الحفَّاظ الكبار المصَنِّفين المجتَهِدين، رحلَ إلى
البلدان، وسمعَ الكثير من المشايخ...» (17).
وكان الإمامُ ابنُ حبان يَعيب على المحدِّثين الذين يهتمُّون بالإسناد
فقط، دون الاهتمام بالمتون، كما كان يعيب على الفقهاء الذين يهتمُّون
بالمتون فقط، دون الاهتمام بطرق الأحاديث، وكان متعلِّقًا بشيخِه الإمام
ابن خزيمة لِـما رأى فيه الجمعَ بين الأمرين، قال- رحمه الله تعالى- في
شيخه: «وما رأيتُ على أديم الأرض مَن كان يُحسنُ صناعةَ السنن، ويحفظُ
الصحاحَ بألفاظها، ويقوم بزيادةِ كلِّ لفظةٍ تُزادُ في الخبرِ، ثقةً، حتى
كأنَّ السننَ كلَّها نصبَ عينيه: إلا محمد بن إسحق بن خزيمة- رحمة الله
عليه- فقط» (18).
وقد أشارَ إلى هذا الموضوع في مقدمة (صحيحِه)، وكادَ ينفرِدُ بمذهبٍ
خاصٍّ فيما يتعلَّقُ بزيادة الثقة، حيث اشترطَ في المحدِّث الثقة الذي
تُقبَل منه الزيادة في المتن أن يكون فقيهًا (19).
ومما اشتُهِرَ فيه الإمامُ ابنُ حبان هو الرحلة في طلب الحديث النبويِّ
الشريف، حيث إنه قد استغرقَ قرابةَ أربعين سنة في رحلاتِه إلى أن رجعَ إلى
وطنه بُست أخيرًا.
وقد أشارَ الإمامُ ابنُ حبان إلى كثرة رحلاتِه قائلًا: «ولعلَّنا قد
كتبنا عن أكثر من ألفَي شيخ من إسبيجاب (20) إلى الاسكندرية» (21)،
و«إسبيجاب» إقليمٌ يقعُ أقصى الشرق الإسلاميِّ في ذلك الوقت، وكانت ثغرًا
من أشهر ثغور الإسلام على حدود القبائل التركية التي لم تدخل بعدُ في
الإسلام، قال المقدسيُّ (ت نحو 380هـ): «ويُقال: إنَّ بها ألفًا وسبعمائة
رباط، وهي ثغر جليلٌ ودارُ جهاد» (22)، وكان هذه الأربطةُ للمجاهدين
المتطوِّعين، تَشترِكُ في بنائها مدُن ما وراء النهر قاطبة.
كما أنّ الإسكندريةَ من أشهر مدن مصر، والتي كانت آخر مدينةٍ يُرحَلُ
إليها من جهة المغرب الإسلامي، فالإمامُ ابن حبان «يريد من قوله هذا أن
يبيِّنَ لنا أنه رحلَ إلى أقصى ما تمكن الرحلةُ إليه لطلب العلمِ في
عصره... ولا يسعُنا إزاءَ هذا العدد الضخمِ من الشيوخ في تلك الرقعة
الواسعةِ من الأرض إلا أن نُرَدِّدَ مع الذهبيِّ قولَه: هكذا فلتكن
الهِمَم» (23).
فرحلاتُ الإمام ابن حبان شملَت أقصى الشرق وأقصى الغرب في البلاد الإسلاميةِ التي كان يُرحَل إليها في ذلك الوقت.
هذا، وكأنِّي بالإمام ابن حبَّان يَستَمتِعُ بتلك الرّحلات المنهِكة،
ويتلذَّذُ بها؛ لأنها هي السبيلُ إلى حفظ سنةِ النبيِّ " صلى الله عليه
وسلم" ، وهذا الشعورُ واضحٌ من كثيرٍ من كلامِه في كتبه، من ذلك قولُه في
مقدمة صحيحه:
«... ثمَّ اختارَ طائفةً لصَفْوَتِه، وهَداهُم لزومَ طاعتِه، مِن
اتِّبَاع سُبُلِ الأبرارِ في لزومِ السُّنَن والآثار، فزيَّنَ قلوبَهم
بالإيمان، وأنطقَ ألسِنَتَهم بالبيان، مِن كشف أعلام دينه، واتِّبَاع
سُنَنِ نَبِيِّه بالدّؤُوْبِ (24) في الرّحْلِ والأسْفار، وفِراقِ الأهلِ
والأَوْطار، في جَمْعِ السُّنَنِ ورَفْضِ الأهواء، والتفقُّهِ بتَرْكِ
الآراء، فتجرَّدَ القومُ للحديثِ وطَلَبوه، ورَحُلوا فيه وكَتَبُوه...»
(25).
فمادامَ أنه يؤمِّلُ بلوغ هذه الدرجة، فتلك الرحلاتُ مما تزيدُه سرورًا، وتزيلُ عنه آثارَ التعب والهموم.
وجديرٌ بالذكرِ هنا أنّ الإمامَ ابنَ حبان، صاحبَ تلك الرحلات الطويلة،
قد ألَّفَ معجَمًا لشيوخِه على المدن، وسمَّاه «المعجم على المدن»، وهو من
الكتب المفقودة.
كما أنه ألَّفَ كتابًا في آداب الرحلة، وهو من الكتب المفقودة.
والذين يتبيَّنُ من استعراض شيوخ ابن حبان أنَّه رحلَ عدَّةَ رحلات بين
إسبيجاب والإسكندريَّة، وليست رحلةً واحدة، والأدلة الدالة على ذلك عديدة
لا يتحمَّلُها هذا المقال.
ويبدو أنّ ابنَ حبان ظلَّ يصحبُ كبارَ العلماء، ويتلقَّى على أيديهم، حتى
ودَّعَ آخرَ شيخَين من كبار شيوخِه (26) عام (325هـ)، ثم ذهبَ إلى
سمرقند، فتولَّى قضاءَها، وفَقَّهَ الناسَ وعلَّمَهم، ثم غادرَها وذهبَ
إلى نيسابور، فعلَّمَ بها سنة (334هـ) قليلًا، ثم غادرَها إلى نَسَا حتى
سنة سبعٍ وثلاثين، حيث تولَّى قضاءَها هذه المدة، ثم عادَ إلى نيسابور،
فبنَى فيها مدرسةً، وقرأَ الناسُ عليه جملةً من مصَنَّفاتِه.
وفي عام (340هـ) عاودَه الحنينُ الشديدُ إلى وطنه، فوصلَ إلى مدينة
سجستان (27) عاصمة إقليم سجستان، فعلَّمَ بها... وخرجَ منها في نفس تلك
السنة إلى مدينة بُست، بعد رحلةٍ امتدَّت أربعين سنةً من عمره، فحطَّ
رحالَه فيها، وبنى دارًا ومدرسة، وذاعَ صيتُه، وصارت الرحلةُ إليه لسماع
مصنَّفاتِه، والإفادةِ من علومِه، حتى وافاه أجلُه عام أربعةٍ وخمسين
وثلاثِمائة، رحمه الله تعالى» (28).
وقد أخذَ الإمامُ ابنُ حبان- رحمه الله تعالى- عن شيوخٍ كثيرين، كما أشارَ هو إلى ذلك، ومن أشهرهم:
1- الإمام الحافظ أبويعلى الموصلي، وقد روى عنه في صحيحه (1174) حديثًا.
2- الإمام الحافظ الحسن بن سفيان الشيباني النَّسَوي، روى عنه في صحيحه (830) حديثًا.
3- الإمام محمدُ بنُ الحسن بن قتيبة اللخمي العَسْقَلاني، روى عنه في صحيحه (472) حديثًا.
4- إمامُ الأئمة الحافظُ الحجة الفقيه شيخُ الإسلام أبوبكر محمدُ بنُ
إسحق بن خزيمة السُّلَمي النيسابوري (ت311هـ)، قال عنه الإمامُ ابنُ حبان:
«ما رأيتُ على أديمِ الأرض مَن كان يُحسن صناعةَ السنن، ويحفظُ الصحاحَ
بألفاظِها، ويقومُ بزيادةِ كلِّ لفظةٍ تُزادُ في الخبرِ، ثقةً، حتى كأنَّ
السننَ كلَّها نصبَ عينيه: إلا محمد بن إسحق بن خزيمة- رحمة الله عليه-
فقط» (29).
وقد لازمَ الإمامُ ابنُ حبان شيخَه الإمامَ ابنَ خزيمة في الحضر والسفر، وتخرَّجَ به في الفقه، وحذا حذوَه في صحيحه.
وقد أخذَ عن الإمام ابن حبان أئمة كثيرون، منهم: الإمام الحاكم
النيسابوري، والإمام ابن مندة، والإمام الدارقطني، والإمام الخطابي،
والحافظ غنجار البخاري، وغيرهم من الأئمة الأعلام.
ومما اشتُهِرَ فيه الإمامُ ابنُ حبان: كثرة التأليف في كثيرٍ من فروع
الشريعة، فألَّفَ كتبًا كثيرةً في الحديث، والفقه، والبلدان، وغيرها.
ومن أشهر كتبه: صحيحُه، الذي عُرِف بـ«التقاسيم والأنواع»، و«صحيح ابن
حبان»، وكذلك: كتاب «الثقات»، و«المجروحين»، و«مشاهير العلماء»، و«روضة
العقلاء»، وغيرها.
وقد فُقِدت أكثرُ كتبه، ولم يصلنا من كتبه إلا النزر اليسير.
رحمَ الله الإمامَ ابن حبان، وأجزلَ له المثوبة، وتقبَّل منه كلَّ ما قدَّمه للأمة الإسلامية، وأسكنَه فسيح جَنَّاتِه.




الهوامش

(1) مجلة «الوعي»، العدد (535)، (ص52).
(2) انظر: «مسالك الممالك» للاصطخري (ص238)، «صورة الأرض» لابن حوقل (ص419).
(3) كتاب صورة الأرض لابن حوقل (ص419).
(4) أي: أهلُها أهلُ دين ومروءة.
(5) كذا في المصدر، واسمُه الصحيح «هِلْمَنْد»، يعني: أنّ شربَهم من نهر هلمند.
(6) يُسمى الآن «نهر أرغنداب» أو «أَرْكَنْداب».
(7) أي: غزنة، يقصد: من جهة غزنة، وهي جهة الشمال.
(8) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، للمقدسي المعروف بالبشَّاري (ص304).
(9) مسالك الممالك، للاصطخري (ص244)، وبنحوه قال المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (ص/304).
(10) انظر: بلدان الخلافة الإسلامية (ص/377، 383-384)، مقدمة الشيخ شعيب (1/8).
(11) انظر: البداية والنهاية (12/229)، نزهة الخواطر (1/79)، تاريخ الدول الإسلامية (2/625-630)، معجم الأسرات الحاكمة (ص/419).
(12) معجم البلدان (1/328- بست).
(13) انظر: بلدان الخلافة الشرقية (ص/384).
(14) دائرة المعارف الإسلامية (3/215-219 بُست)، وانظر: مقدمة الشيخ شعيب
للإحسان (1/8)، الإمام محمد بن حبان البستي للحمش (1/112-113).
(15) الثقات، لابن حبان (4/225). وكتاب «فضائل سجستان» من الكتب المهمة لابن حبان، والتي مازالت مفقودة.
(16) انظر: الأنساب، للسمعاني (1/248- البستي)، تاريخ مدينة دمشق، لابن
عساكر (52/249)، معجم البلدان، لياقوت الحموي (1/415- بست)، تاريخ الإسلام
(8/73).
(17) البداية والنهاية (11/276).
(18) «المجروحين» (1/93).
(19) انظر مقدمة صحيحه (1/159).
(20) «إسبيجاب» أو «أسبيجاب» مدينةٌ تقع في إقليمٍ يحملُ الاسم نفسه،
وتقعُ إلى الشمال من مدينة طشقند- عاصمةِ أوزبكستان- إلى الشرقِ من نهر
سيحون (سير دَرْيَا)، وهي مدينة سيرام الحالية، التي هي على نهر «أريس» أو
«بدم»، وهو رافدٌ من روافد «سيحون» اليمنى، وهي تقع الآن في جمهورية
كازاخستان. انظر: بلدان الخلافة الشرقية (ص/527)، المسلمون في الاتحاد
السوفييتي (2/497).
(21) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (1/152).
(22) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، للمقدسي البَشَّاري (ص/273)، وانظر: المسلمون في الاتحاد السوفيتي (2/497).
(23) اقتباس من كلام الشيخ شعيب الأرنؤوط في مقدمة تحقيقه لصحيح ابن حبان (1/10)، أمّا كلام الإمام الذهبيِّ ففي «السير» (16/94).
(24) أي: بالجدِّ والتعب، والاستمرار في ذلك.
(25) مقدمة (صحيحه) (1/100-101).
(26) هما الحافظان: محمد بن عبدالرحمن الدغولي، وأبوحامد أحمد بن محمد بن الشرقي.
(27) هي مدينة «نِيْمْرُوْزْ»، وهي مركزُ ولاية «نيمروز» في الجنوب الغربيِّ من أفغانستان.
(28) «الإمام محمد بن حِبَّان البستي ومنهجُه في الجرح والتعديل»، للشيخ عداب الحمش (1/151-152).
(29) «كتاب المجروحين» لابن حبان (1/93).