المماحكةُ -
أيها الموفق - : التمادي باللِّجاج ، وعسرُ الرأي ويبسُه وصلَفُه . وهذه
أعراضٌ يلبَسُها بعضُ الفُضَلاءِ في جِدَالهم ونقاشاتهم .
وقد تبيَّن لي شيءٌ من الأسبابِ التي تدفعُ المرءَ إلى الانتصارِ لرأيٍ رَآه ولو كان مخطأ ، والعكوفِ عليه وعدمِ التراجُعِ عنه :
فالسَّبَبُ الأوَّلُ :
أنَّ
كثيراً من النَّاسِ يُعاملُ رأيَه واجتهَادَه على أنَّه من صميم فكره ،
وتكوينِ نفْسِهِ ، فإذا تَرَاجَع عنه ، وأقرَّ بالخطأ ظنَّ أن عيباً سيلحق
عقلَهُ أو كينونةَ نفسِهِ ... والواجبُ أن يعاملَ المسلمُ الرأيَ
الاجتهاديَّ على أنَّه مستقلٌ عنه ، فهو كاللِّباسِ إنْ لم يكنْ
مُنَاسِباً استبْدَلَهُ بآخَرَ دونَ أنْ يَلحَقَهُ عَيْبٌ من النَّاسِ .
ولتعلمْ
أنَّ هذا عَسِرُ على النَّفسِ ، صعبُ في الخارج (الواقع) ولكنَّه يُنبيكَ
عن نفْسٍ قويَّةٍ مستقلَّةٍ تريدُ الحقَّ ، وتسعى إليه .
وهذا يتطلَّب-ولا شكَّ- دربةً نفسيةً ، وصبراً على كلام الناسِ وخاصةً الأقرانَ ... فالنَّاسُ في الغالبِ لا ترحمُ المخطئ !
السبَبُ الثَّاني :
قلَّةُ الإنصافِ ، والإنصافُ رأسُ الأخلاقِ وأسُّهَا ، وبه تَعرفُ المرءَ الصادقَ من المماحكِ بالباطل .
وفَقْدُ
هذا الخلقِ النبيلِ يدفعُ بالرَّجلِ إلى رفضِ حقٍ عندَ خصمه لسببٍ خارجَ
النزاع ، ككرهِ الخصمِ والحقدِ عليه أو خوفٍ على سُمعةِ نفسِهِ ، أو
إرادةِ غلبةٍ ، أو سعيٍ في دنيا .
وقد اشتكى الناس قديماً من قلَّةِ الإنصاف ... فكيف لو رأوا بعض أهل هذا الزمان ؟!
ولو
فتشتَ ونقَّبتَ لعلمتَ أنَّ هذا الخُلُقَ يَعِزُّ وجوده إلا في نفوسٍ
رحمها الله ، أما المجادِلُ المنصِفُ فسريعُ الأوبة والفيئة إذا رأى الحق
قد عَدَاهُ ، لا يجد غضاضةً في ذلك ، بل يعتقد أنَّ كمالَ نفسه ونقاءَها
لا يكون إلا بهذا .
السبب الثالث :
عدم
الاستماع والإنصات ، وكنتُ أتعجب من بعضهم حين أورد له حجةً بيضاءَ
قاطعةً فلا يستجيب ! فإذا هو لا يسمعها لانشغال ذهنه وعقله باستجلاب حجج
وبراهين أخرى.. ولو طلبتَ منه إعادة ما قلتَ له لأعاده مبتورا خداجاً
مجتزئاً لم يفهمه !
السبب الرابع :
المراءُ في أمورٍ لا يحسنُها ، فهو مستعدٌ للنِّقاشِ في كل القضايا العلمية والعملية وله في كل رأيٍ رأيٌ وقول !
وقد
كان السلف متجانفين عن هذا المسلك ، لا يمارون إلا مراءً ظاهراً فيما
يعرفه أحدهم ، وكانت (لا أدري ) عندهم نصف العلم ، وفيها السلامة .
أما
الحاطبُ في كل وادٍ ، والخابطُ في كل قضيَّةٍ فهذا –لعمر الله- بليَّةٌ
في المجلسِ ، وغصةٌ في الحلقِ لا ينفع معه إلا أحد أمرين :
إما
إسكاته وإما قطع الطريق عليه كأن تقول : هل قرأت الكتاب الذي تعيبه ؟ هل
سمعت هذه المقولة أم نقلت لك ؟ هل تتحدث بعلم أم هي مجرد توقعات وأحاسيس
أولية ؟
السبب الخامس :
التعصب والتقليد
الأعمى ، وإنما يذم التقليد إذا كان على غير هدى كأن يقلد من ليس أهلاً
لذلك ، أو يتبع مقلَّده مع يقينه بخطئه ، أو يقلدُ في موطنٍ لا ينبغي فيه
تقليدٌ .
وهؤلاء المماحكون
البطَّالون كم أفسدوا علينا لذيذَ المذاكراة والمدارسة ، وخاضوا في ما
يحسنون ويجهلون ، فكلُّهم في نفسِه المبرِّدُ في اللُّغةِ ،والشافعيُّ في
الفقه ، وابنُ رشد في الفلسفة .
وإذا ذمَّ أحدهم نفسَه فمدحها يريد ، فإن ذمَّ النفس أمارة على العجب والكبر أحياناً ...!
فيا
طالبَ العلمِ جرِّد النَّفسَ من عُلَقِ الهوى ، واشْحَذْ نيَّتَكَ
بالإخلاص ، واحفظ ذهنك بالتـــرَوِّي ، وثقِّفْ عقلَك بالتأمُّلِ ،
وإيَّاك إيَّاك والجدل فيما لا تحسن ...! ورحم الله امرأً عرف خطئَه
فَثَابَ ، وتبيَّنَ له الحقُّ فأناب ...
..
..
..
..[/right][/right]
كتبه : ابن المهلهِل